مجلة طلعنا عالحرية

الثورة وفضاءاتها

zune_hd_facebook_twitter_featured

في الأيام الماضية رصد ناشط آيسلندي يعيش في النرويج صورةً لرجلٍ سوريٍ في لبنان يتجول في بيروت يبيع الأقلام حاملا ابنته الصغيرة على كتفه محاولاً كسب قوته. تعاطف الناشط مع الصورة ومع صاحبها، وأطلق حملةً على تويتر لجمع مبلغ خمسة آلاف دولار لمساعدته. كانت الاستجابة للحملة هائلة حيث جمع مبلغاً وصل إلى أكثر من 180 ألف دولار خلال يومين، ولفت نظر محطات التلفزة والصحف الكبرى، وساعدته إحداها في الوصول إلى صاحب الصورة، وأصبح بائع الأقلام السوري رمزاً لمعاناة السوريين في دول اللجوء والشتات، ورمزاً للقوة الهائلة لتويتر. ربما لم يكن سيتسنى لهذه الحملة أن تحظى بذات النجاح لو كانت على فيسوك بسبب اختلاف طبيعة المنصة واختلاف روادها رغم عددهم الهائل. فالحملة كانت في المكان المناسب، بين الأشخاص المناسبين، وتحمل هدفاً لا يمكن التشكيك فيه أو الحيرة تجاهه، وهو مساعدة رجل من الواضح أنه بحاجة للمساعدة مدعمة بدليل قاطع وهو صورته تلك.

يعود تاريخ استخدام الإنترنت في النشاط السياسي المعارض، وبغرض حشد الدعم وراء فكرة معينة لدفعها إلى الأمام، إلى بداية التسعينيات، حيث قام معارض من دولة الغابون الأفريقية بإنشاء موقع على الإنترنت يدعو لرحيل الدكتاتور الحاكم منذ تسع وعشرين عاما في ذلك الوقت، وبعد فترة قالت منظمة العفو الدولية بأن خمسة من مواطني تلك الدولة اعتقلوا بسبب انتسابهم إلى مجموعة إلكترونية مرتبطة بذلك الموقع، ولعل تلك الحادثة كانت أولى حالات الاعتقال على خلفية النشاط الإلكتروني. وسرعان ما تطورت التقنيات وأتى تويتر ثم فيسبوك وغيره من منصات التواصل الاجتماعي والتدوين القصير، وأصبح الفضاء الافتراضي مكاناً يعج بالناشطين والحملات لسهولة الوصول إلى الناس من خلاله، وانفرد كل من هذه المنصات بصفات وقدرات ميزته عن الآخر. أصبح تويتر مكاناً مثاليا لتلك الحملات، وتفوق على فيسبوك من حيث جدواه في تحديد جمهور الحملات، والتفاعل معها، وسهولة انتقال الفكرة، وأصبح فيسبوك قارةً جديدةً يقطنها مليارٌ ونصف المليار من المستخدمين، لكن لأغراض قد تكون مختلفة قليلا.

منذ انطلاق الثورة السورية في عام 2011، اتخذ السوريون من فضاءات شبكات التواصل الاجتماعي مساحة للتعبير والتواصل ونقل الخبر، ولعل غياب الفضاء الحقيقي للاجتماع، وإمكانية تأسيس مؤسسات إعلامية معارضة على الأرض، كان أحد الأسباب التي دفعت بهم إلى ذلك الفضاء، إلا أن سهولة استخدام تلك الفضاءات والآفاق الواسعة التي تخلقها كانت أيضاً من الأسباب التي حدت بهم لتوظيفها على هذا النحو. لم يكن السوريون أول من وظف هذا الفضاء لخدمة قضيتهم، بل سبقهم كثرٌ غيرهم، فالمصريون بدؤوا ثورتهم من خلال صفحة على فيسبوك، واستخدمه التونسيون كذلك.

وجد السوريون أنفسهم على فيسبوك بحكم قيام الناشطين الأوائل في الحراك السلمي باستخدامه، أو لأن صفحة الثورة السورية ضد بشار الأسد التي تأسست قبل الثورة بأسابيع كانت هناك، فهم في الأصل غرباء عن تلك المنصات التي كان معظمها محجوباً في مجتمعهم الذي يعاني أشد أنواع القمع، وعلى الأرجح فهم لم يختاروا ذلك. وبعد فترة وجيزة أصبح فيسبوك مكاناً مريحاً لهم، يرون فيه ما يثلج صدرهم أو يعبر عن موقفهم، وأصبح الفضاء الفيسبوكي السوري منقسماً بعدد انقسامات قاطنيه، وارتفعت بين هذه الفضاءات الجزئية جدران عالية كتلك التي على الأرض، وإن مجازاً هنا.

يمتاز فيسبوك برحابة لا يوفرها تويتر من حيث حجم مساحة الكتابة في منشور واحد، وإمكانية نشر صور أكثر في منشور واحد، ومقالات كاملة إن شئت، لكن فيسبوك يصل بين الأشخاص، ويتيح معرفتهم بشكل وثيق، فهو منصة اجتماعية، بينما لا يتيح تويتر تلك الإمكانيات لمعرفة الآخر، ولم يعتمد تويتر الرسائل الخاصة، التي شكلت جانباً مهماً للسوريين، إلا لاحقاً.

يميل السوريون إلى الاستفاضة في منشوراتهم، ويغنونها بالصور، والفيديوهات، وهذا أمر طبيعي في ظل التسارع غير المتوقع للأحداث وتصاعد العنف وغزارة الأخبار وهول الأحداث، والحاجة لنقل الكثير منها مرفقةً بالأدلة التي شكلت الصور والمقاطع المصورة عمادها، ولا شك أن قدرة فيسبوك على التعاطي مع هذه الأشياء أكثر اتساعاً من تويتر. لكن البعد الاجتماعي لعب أيضا دوراً كبيراً في انحيازهم إلى فيسبوك، فشبكات المعارف والأصدقاء التي أتاحها فيسبوك وإمكانية الانخراط فيها، حفزهم على البقاء هناك، فأصبح هو حيز الراحة الخاص بكل منهم، وأمست مغادرته أكثر صعوبةً من قبل بعد أن اعتادوا عليه كل هذا الاعتياد، حتى حين فقد جدواه في إيصال صوتهم إلى العالم. لكن اللغة وحواجزها كانت واحداً من تلك الأسباب أيضاً، فعدم معرفة الكثيرين منهم بلغات أجنبية ربما دفعتهم للعزوف عن فضاء تويتر الذي قد يتطلب معرفة بها.

لكن السوريين، ومجتمع الناشطين منهم على وجه الخصوص، دفعوا ثمناً كبيراً لهذا الانحياز لمنصة واحدة، فقد انغلقوا على أنفسهم، ليس فقط تجاه السوريين الآخرين ممن لا يشاطرونهم الرأي والتوجه السياسي وحسب، بل تجاه العالم الذي يجد في تويتر وسيلة أسرع لنقل الخبر، أو إقامة حملات التوعية والحشد والدعم.

إن دفع مواطني الدول الأخرى المهتمين بشؤون العالم الخارجي للانخراط في النقاش حول سوريا سياسياً وإنسانياً، ومعرفة ما يدور فيها بعيداً عن الإعلام التقليدي الموجه أمرٌ على غاية الضرورة في ظل القدرة الهائلة للمجتمعات على الدفع باتجاه تغيير السياسات، وعلى السوريين بذل الجهد للخروج من فضاء فيسبوك الذي أغلقوه على أنفسهم إلى فضاءات جديدة أكثر رحابة قد تحظى فيها قضيتهم بانتباه هم بأمس الحاجة إليه.

Exit mobile version