ربما من أكثر المفاهيم جدلاً في الفكر الإسلامي المعاصر، مفهوم التجديد، وقد كان له عبر المئة عام الأخير صيغ وتجليات مختلفة، كان بعضها جاداً وعميقاً، وكان بعضها عابثاً سطحياً، واتخذ بعضها اتجاهات تغريبية، وبعضها الآخر اتخذ اتجاهات تاريخية ماضوية، وقد سيطر على معظمها العجز عن إقامة علاقة صحيحة مع التراث ومراجعه، بحيث تستفيد منه في بناء عالم ثقافي معاصر، لا يكون مديناً للماضي، ولا يكون أسيراً للنماذج الثقافية المعاصرة، بل يكون معبراً عن المسلم الذي يعيشه ويتبناه، ويبدوا أن عقدة النقص إزاء الحضارة الغربية المتفوقة عسكرياً وسياسياً واجتماعياً وأخلاقياً (وإن كنا نستخدم أقمشة أكثر منهم في تغطية النساء!)، أقول تجعل هذه العقدة العلاقة المعقولة؛ أي علاقة التضايف، غير مستقرة ولا ممكنة. فالمسلم في علاقته مع الحضارة الغربية، كما يقول المثل العامي: “عينه فيه، وتفوه عليه”! فهو يتمنى أن يكون له مثل عجلهم، ويخشى أن يفارق ما وجد عليه الآباء، وهو كقوم موسى الذين لم يعرفوا معنى أن يوجد بينهم موسى، ولذلك لم يروه إلا وسيلة للتوسل إلى ربهم أن يجعل لهم “إلها كما للآخرين آلهة”، وهذا سبب المشكلة التي يعيشها مسلمو اليوم؛ أنهم لا يعلمون قيمة ما عندهم بسبب غيبتهم عما حدث في العالم، ولو علموا ما حدث في العالم لعلموا قيمة ما عندهم، وتمكنوا من إقامة علاقة صحيحة معه، ومع العالم المعاصر، وبسبب هذه القطيعة المضاعفة عن التراث ومصادره الأصلية، وعن آخر منتجات العقل الإنساني، يعيش العقل المسلم هذه المتناقضة؛ فهم يريدون أن يجددوا مع المحافظة على تراث الآباء، ويريدون أن يغيروا العالم شريطة أن لا يتغيروا! ولذلك تبدأ حركة الفكر عندهم بالوقوف، ويبدأ التجديد عندهم بالتقليد، ومن ثم تكون محصلة حركتهم دوراناً في المكان وجموداً في الزمان. وخير من عبر عن هذه الحال أخيراً، الكاتب العراقي د. أحمد خيري العمري في مقال كتبه مؤخراً عن التجديد، فهو يريد قبل البدء الاطمئنان إلى الضوابط والشروط، ولكن هل يمكن أن يكون التجديد بشروط وضوابط؟ وهل التجديد إلا خروج على الشروط والضوابط؟ حتى في الحقول العلمية البحتة، لا يمكن التقدم إلا بكسر البارادايم وتجاوز ضوابطه وشروطه، لأن البارادايم لا يستدعي الحركة والتجديد إلا عندما يصبح قيداً يعيق الحركة، بعد أن كان هادياً ومرشداً لها. فالذي يتحدث عن التجديد ويتحدث عن الشروط والضوابط، تماماً كمن يريد أن يأكل من الكعكة ويريد في نفس الوقت أن يحافظ عليها. كما أن الرغبة باستدعاء الشروط قبل الحركة تعكس نوعاً من الرهاب، وعدم الثقة بالنفس أو الموضوع محلَّ التجديد، وكأن الحركة من غير ضوابط يمكن أن تبدد ما لدينا وتجعله عرضة للضياع!
واستدعاء مثل هذه المشاعر أمر مشروع، لكن أن نحول هذه الهواجس إلى منطلقات لا يجوز تخطيها، فهذا إبطال لكل سعي وإقعاد لكل همة، والذي يخطر له مثل هذا الخاطر في مثل هذه اللحظة، كمن استيقظ من النوم للتو، ولم يكمل عملية صحوه، فهو يخشى من أن أي حركة سريعة أو متعجلة قد تودي به، ولذلك تجده متردداً في حركته، بطيئاً فيما يقوم به، غير واثق مما يفعل.
إن التجديد تحرر وكسر للقوالب القديمة، ولا يمكن البدء في عملية التحرر بوضع قيود جديدة، كل ما هو منظم ومقعّد في الحياة الإنسانية، وفي تاريخ العلوم والمعارف الإنسانية، لم يبدأ بالقواعد والقوانين ، وإنما بدأ بكسر القوانين والقواعد، وإنما جاءت القواعد تالية عندما استوت المعارف واستقرت، وعندما ترسخت القواعد أبطأت حركة التجديد، ثم اشتدت القواعد حتى شلّت حركة الفكر وأغلقت باب الاجتهاد، وعند هذه اللحظة تتوقف الأمة عن التقدم والنمو.
حدث هذا في كل الأزمنة، وفي كل الأمكنة، وفي كل الحقول، ولدى كل الأمم، وحدث لدينا في اللغة والشعر والفقه والحديث والتفسير.
إن إظهار مشاعر الخوف على الأمة أو القرآن، من العقل والحركة العقلية ليس فضيلة، بل هو جبن في الفكر، واستبطان للظن السيء بالقرآن والإنسان، ويجب أن يكون محلَّ إدانة من غير تردد أو تلكؤ، وذلك للاعتبارات التالية :
1 – إن التاريخ يعلمنا، أن تاريخ الجزيرة العربية كان تاريخ الدوران في المكان حتى أنارت الجزيرة أنوار القرآن، وعندها اتخذت الحركة مساراً خطياً أحرز كل هذا التقدم، والذي تحقق الجزء الأكبر منه بفعل السرعة الابتدائية التي انطلق بها المجتمع العربي بتأثير الفكرة القرآنية. وإن نهاية عقل الاجتهاد (العصر الكلاسيكي) وبداية عصر القيود والضوابط هي بداية ظهور أعراض وعلامات المرض على الجسم الإسلامي، والتي تجلّت في محاولة فرض الرأي وتغييره بالجلد، كما فعل المأمون وابن أبي دؤاد مع ابن حنبل، ولفيف من كبار العقول في الأمة؛ حيث كانوا يجمعون بالأكياس، على ظهور الدواب من بقاع الإمبراطورية التي تسمى زوراً ونعرة بالخلافة، وقد تمّ إنجاز هذا العمل أيام المتوكل، وقد توج هذا العمل حتى أصبح العمل الفكري جريمة يعاقب عليها القانون، ونتج عن ذلك الشلل التام الذي نتج عنه ثقافة عربية ميتة، وإنسان عربي خائف مرعوب يستخدم كل شيء إلا دماغه، وينتظر أن يأتي الآخرون من وراء الحدود كي ينجزوا له واجباته الوطنية؛ كما فعل إخوتنا في العراق من قبل، وكما يتمنى السوريون اليوم.
2 – إن القرآن ليس وهماً يجب أن نحافظ عليه، وليس قصة يمكن أن تشوّه، ولا قطعة ثلج يمكن أن تذيبها حرارة الشمس، إنه حقيقة وجودية بطول ألف وخمسمئة عام، وعرض يساوي جغرافيا العالم الإسلامي، مع امتدادت في جميع أنحاء العالم، وحجم يساوي ربع العالم مع الزيادة المطردة، مع رسوخ يساوي رسوخ السُّـنة الكونية. فكلّ خوف عليه يعكس نفسية مهزومة لا تتصل بالقرآن، بل هي أسيرة الثقافة العربية التي أنتجتها الإمبراطورية العربية، التي كانت سرطان الفكرة القرآنية، بينما القرآن هو كتاب الوجود الزاخر بالتحدي المفتوح على الزيادة.
إن هزيمة المسلم الروحية الساحقة، تظهر له توازناً هشاً في العالم كما يتصوره. إن أي حركة تخرج عن القيود التي اعتادها حتى أعاقته، يمكن أن تخلخل هذا التوازن الهشّ، وتجعل العالم يتهاوى، ولهذا يحاول أن يحفظ بعض مقوماته من التهاوي والسقوط.
إن بيت العنكبوت (ثقافة الآباء) التي فات أوانها، ونسعى بكل الجد للحفاظ عليها والاحتفاظ بها، هي التي تتهاوى وليس القرآن، وإذا كنا نظنّ أن القرآن عرضة للضياع، وأنه محلّ تهديد فنحن لم نؤمن أبداً بقول الله “إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون”، وقوله “إن الله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون”، ولم نتمكن من السير في الأرض فتكون لنا قلوب بها نعقل، أو آذان بها نسمع، أو أعين بها نبصر، فنفهم قانون الله “كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض”.
3 – إن تصورنا أن العالم ناجز وأن المعاني تامة، وما علينا إلا أن نردد ما قيل من قبل، يعني بصريح المعنى أننا نفتقد الأهلية للفهم والعلم، ومن يفتقد هذه الأهلية يستحيل عليه الفعل والإنجاز، ولذلك يجب أن نمارس فريضة التدبر من جديد ، كما أمرنا القرآن؛ نتدبر في القرآن ونتدبر الكون بأمر القرآن أيضاً، ومن خلال إجالة العقل بين الكون والكتاب، تتجلى لنا آيات الله في الكون والكتاب، ونبدأ قليلاً قليلاً بتذوقها ووعيها. عند ذلك يمكن أن يكون للكتاب دور الهادي، وتكون لآياته قيمة النور الذي يخرج الناس من الظلمات، و يوضح الطريق ويهدي سواء السبيل، وكل محاولة للإطلالة على الكتاب من خلال الآباء إضافة لكونها غير مفيدة من الناحية العلمية والعملية، فهي وثنية تجعل القرآن أسير الآباء، وتجعل المطلق في قيد المحدود، وتجعل الله سبحانه وتعالى مثل الآباء أو دونهم، إن القرآن كما وصفه النبي “لا يخلق على كثرة الردّ ولا تنقضي عجائبه”، وهو فوق الزمان والمكان، فأيّ تحريف وتزوير نرتكب عندما نضعه في أسر التاريخي والمتجاوَز، في معظم ما أنتجه الآباء، وكان محكوماً بالشرط التاريخي المعرفي الذي عاشوه.
4 – إن المسلم مخلوق بالطريقة التي خلق بها غيره من البشر من الناحية البيولوجية، أي أنه بلغة القرآن بشر “بل أنتم بشر ممن خلق”، وكل ما لدينا من أفكار ومفاهيم ليست صناعة ربانية، ولا هي مفاهيم الوحي وقد صُبَّت في عقولنا وضمائرنا صبّاً، ولا هي كلمات الله وقد طبعت في قلوبنا ولا شعورنا طبعاً؛ إنما هي ما أنتجه الآباء من تهويد أو تمجيس أو تنصير أو لبرلة أو يسرنة أو يمننة..
ومن ثمّ فلا يوجد فكر يضرب عليه بسور اللامساس، فلا يجوز الاقتراب منه أو التعاطي معه، ولا يوجد فكر يمكن أخذه مأخذ التسليم التام، والقبول الكامل بعجره وبجره، وإنما كل الأفكار يجب أن تمرر عبر بوابة العقل، وبعد أن تجتاز اختبارها تكتسب الأهلية أو تستبعد.
إن عبارة “إدخال الأفكار في الرأس المسلم” توحي بأن الرأس المسلم مُكَوَّد مسبقاً، وأنه يستلم عند الولادة شيفرة، تحدد ما الذي يمكنه التعامل معه أو قبوله، وهذه العبارة وإن كانت صحيحة من الناحية الواقعية، فإنها إحدى نتائج التربية في مناخ ثقافي ميت، وليست ميزة إنسانية ينبغي التمسك بها، إنها مسخ للفطرة لمن يؤمن بمعنى الفطرة، إنها العبودية للبيئة الثقافية التي تشوه عقولنا، وتسدّ أمامنا آفاق فهم الكون والكتاب، وتجعلنا نجتر تخلفنا الشامل الديني والأخلاقي قبل السياسي العسكري، وكأن المسلم محكوم بيولوجيا بأن يكون ضد الليبرالية وضد التجديد، وهو ُمصَنَّع بحيث يكون عبداً للتاريخ ومقلداً للآباء، وأن كل إضافات العالم المعاصر محرمة عليه، وإلا فإنه مهدد بالوقوع تحت شرط المجازفة بأصالته، وتضييع دينه. إن بحثاً بهذا المستوى يجهل معنى الإنسان، وهو بكل تأكيد لم يرح رائحة القرآن.