مجلة طلعنا عالحرية

البنى الطبعية وتأثيراتها في تمايزات مواقف السوريين

سميح الصفدي

ثمة تمايزات ثقافية وأخلاقية بين مختلف الشرائح الشعبية في المجتمع السوري أدت إلى تمايزات في مواقفهم السياسية، وأثرت إلى حد بعيد في ولائهم للنظام أو للثورة أو حيادهم السلبي، وذلك بناءً على سمات طبعية تخص المرجعية الأخلاقية والأنماط التربوية المتفاوتة التي تربوا عليها، وهي باعتقادي أنماط عابرة للطوائف، وإن كان لأنماط معينة الغلبة لدى جماعات معينة ستتم الإشارة إليها لاحقاً.

لا نبالغ إذا قلنا أن روح الثورة السورية التي انطلقت عام 2011 وتمثلت في أبطالها الأوائل كانت روحاً دونكيخوتية مشبعة بالشجاعة والإيثار والضمير الحي، وكان يمكن لها أن تؤسّس فعلاً لواقع جديد وثقافة ضميرية جديدة فيما لو كُتبت لها الحياة، لكن مثلما كان دون كيخوته “رمز النبالة الساعية في خير الإنسانية، والذي دائما يصطدم بالواقع الكالح فينتهي بالإخفاق”، كذلك كانت الثورة السورية التي “عجزت وسائلها عن تحقيق أمانيها”. فالقسوة والعنف المفرط الذين جوبهت بهما، والتآمر الدولي ضدها، أطاح بهذه الأحلام والبشارات، وقتل بالفعل حاملها الإنساني من قيادات الصفَّين الأول والثاني وحتى العاشر لاحقاً… وبدا بالفعل أن الواقع السوري ينفتح على هوة سحيقة من العنف والنار والحقد انسحق على مذبحها آخر ما تبقى من عقل وحلم وضمير.

وبقدر ما كشفت الثورة السورية عن بطولات ومآثر أخلاقية قلّ نظيرها إنسانياً، كشفت على الجانب المقابل عن قلة أخلاق وغياب عارم للضمير الإنساني، وهنا أتحدث عن تناقضات المجتمع السوري ذاته، ولا يعنيني الموقف الخارجي من دول أو شعوب أخرى.

إن المشهد المرعب لطفل يُذبح، أو مسنّ يذّل ويعذّب، أو معتقل جوّع وعُذّب حد القتل، أو مشهد منازل تُهدم فوق رؤوس ساكنيها وتطحن عظامهم، ترتكبه أولاً وأخيراً أيادٍ سورية، وهو يستقطب حين عرضه على الشاشات خمسة مواقف أخلاقية متباينة لأناس سوريين (وأضع هنا كلمة «متباينة» تحت خمسة خطوط)، كيف يمكن أن يُفهم ذلك؟ وهل بالإمكان استيعاب هذا الاختلاف في المواقف عقلياً؟، أم إننا بحاجة لمفردات التحليل النفسي لفهم هذه التناقضات المرعبة وهذا الاحتيال الذاتي العجيب على أكثر الأمور وضوحاً وأكثرها «أوليةً»: القتل، الاعتداء السافر على حياة الناس وعلى الوجود الاجتماعي للبشر.

 الأنا الأعلى المفقود

كان المفكر الراحل هشام شرابي قد رصد حالة لا متوقعة تفيد بضعف «الأنا الأعلى» في البنية النفسية العربية التي تتربى على القمع. فالطفل العربي باعتقاده «يشعر بالخجل أكثر مما يشعر بالذنب، والدافع إلى الخجل هو أن الآخرين يشاهدون ما ارتكبه من عمل سيء، لا لأنه يشعر بالندم على ذلك العمل السيء حاكماً على نفسه كما يجب أن يحكم».

ويضيف شرابي: «العيب الذي يشعر به الفرد هو ما يقوله الناس عنه»، وبالتالي فإنه يعمد إلى «إخفاء نواياه والحذر فيما يقوله بحيث يكون هناك معنى مبطناً وراء كل كلمة تصدر عنه، أو عن الآخرين».

وبما أن «الأنا الأعلى» والذي هو مرادف للضمير الأخلاقي، يفترض نوعاً من القدرة على الشعور بالمسؤولية، فإن الطفل الذي يتعود القسر والإتباع والتلقين لا يتأتى له أن يكون مسؤولاً، بل هو قاصر على الدوام، وموضوع لفعل الآخرين، وليس فاعلاً، وبالتالي فإن الفرد «يعفي نفسه من المسؤولية، مما يؤدي إلى غياب النقد الذاتي وإرادة العمل والمبادرة في الفعل». وبالنتيجة يبقى الأنا الأعلى لديه «كياناً غامضاً وغير تام، بل مجرد مركز للعادات الاجتماعية والقواعد الشكلية للسلوك».

وبكلمات أكثر سلاسةً يفسّر الكاتب: «إن الطفل الذي يخضع للإذلال والقمع عليه أن يتحمل سلطة أبيه إلى أن يستطيع التخلص منها، فهي لا قيمة ضمنية لها ويمكن رفضها لمجرد أنها لم تعد قادرة على فرض نفسها. أما التعويض الذي يحصل عليه الأنا فهو في تخلصه من الضغط الثقيل الذي كان يرزح تحته، وبالعثور على مخرج لحاجاته المكبوتة. وأما شكل السلوك الذي يتخذه هذا التعويض فهو ما يجري عند أفراد الطبقة الوسطى في المجتمع العربي، أي السلوك القائم على تركيز الذات والتنافس ونسيان المصلحة العامة واستبدالها بالمصلحة الفردية التي تصبح فوق كل مصلحة».

وبقدر ما لهذه الإضاءة الكاشفة للكاتب الراحل من أهمية فائقة، بقدر ما تنفتح على فضاء مجهول وسوداوي وأسئلة وإشكاليات كبيرة، وإذا كان «الأنا الأعلى» -مركز الأخلاق الفردية والجمعية ومحرك الضمير وأوجاع الشعور بالذنب- غائباً، أو في أحسن الأحوال «ضعيفاً»، فعلى ماذا سنعوّل في بناء حاضرنا ومستقبلنا، حريتنا، حقوقنا، وحدتنا وكرامتنا!؟

إذا كان كل التزام بمبادئ أو ضوابط أو تحريمات ناتجاً عن ضغط أو خوف من قوة خارجية ليس ضميراً، فإن الضمير على الأرجح هو ذلك الصوت الباطني المستقل النابع من أعماقنا الإنسانية، الذي لا يحتاج في تحكيمه إلى مكافآت، ولا يأبه بعقوبات، ولا يهتم بالأحكام العامة الجاهزة. إذن فهو من المفترض أن ينحو نحو الموضوعية والعدالة، وأكثر منهما نحو المحبة والرحمة والتسامح.

الضمير هو نتاج المواجهة ما بين الأنا الأعلى والأنا، ما بين الذات والذات، هو المراجعة والنقد والحساب الذاتي، كل المبادئ الأخلاقية المكتسبة دون هذه المواجهة لا تشكل بعد ضميراً.

وإذا كان الرضوخ للمبادئ «الأخلاقية» الصارمة المفروضة والسائدة عند الفئات الشعبية والمتدينة ينبع من القمع والخوف من القوى الخارجية: المجتمع والسلطة، الله والدين، ووكيلهما اللاشعوري الأب. فلأي شيء تخضع النخب العربية؟ و«المثقف» و«الفنان» و«الثائر»، «الملحد» في أحيان كثيرة، هل يمتلك هذا الخارجُ من بطن الاستبداد ضميراً؟ وما هو الجذر الحقيقي للمبادئ التي يدعو إليها ويحاول الذود عنها؟

 تعثّر النمو وتثبّت الليبيدو

النتيجة التي أريد أن أخلص إليها، وإن احتاجت إلى تفسيرات إضافية  لا مجال لخوضها هنا، هي أن الإنسان المفتقد للضمير هو بالضرورة كائن «غير مكتمل النموّ»، وإذا كانت الأدبيات التحليلية النفسية تفيدنا بأن الضمير يبدأ بالتشكل في السنوات الأولى من عمر الإنسان (ما بين السنة الرابعة والخامسة مع تصفية عقدة أوديب) فإن تعثر هذا التشكل لا بدّ سيُنتج شخصاً عُصابياً، وساحة الأنا لديه ستبقى خاضعة للتشكيلات النفسية السابقة على هذه المرحلة، وأعني التشكيلات الليبيدوية الأولى (الفموية، الشرجية، والقضيبية) بما تحمله من تثبيتات وتصعيدات لاحقة.

مع التشكل التام للأنا الأعلى يتحول الإنسان الى كائن أخلاقي، وسمة هذا الكائن وحجر الأساس فيه كإنسان مكتمل هي القدرة على «الشعور بالذنب»، كذلك القدرة على التناغم والتوفيق ما بين الحاجات والغرائز والرغبات وبين المبادئ الأخلاقية والقيم الاجتماعية والواقع الخارجي.

قبل نضوج هذا التشكل تخضع الأنا الطفلية لتطورات متلاحقة متعلقة بنمو الطفل الفيزيولوجي وسلم أولوياته واحتياجاته، ومن أهم المراحل التي وصفها فرويد والتي تسم الجنسية الطفلية أو بتعبير أدق «الليبيدو الطفلي»:

 – المرحلة الفموية، وتتزامن مع اعتماد الطفل الكلي على أمه من خلال الرضاعة؛

– مرحلة السادية الشرجية، والتي تتزامن ومرحلة تعليمه على اكتساب النظافة والتحكم بمفرزاته الخارجية؛

– المرحلة القضيبية، التي ينتقل اهتمام الطفل فيها الى أعضائه الجنسية وتتداخل مع تصفية عقدة أوديب، ومن ثم طور الكمون الذي يستمر حتى عهد البلوغ لتبدأ مرحلة جديدة؛

– المرحلة التناسلية، والتي تتوافق والتشكيل المكتمل للطبقات النفسية الثلاث (الهذا، الأنا، والأنا الأعلى).

نتساءل هنا: ما هو إذاً تأثير الضعف أو شبه الغياب لتشكيل «الأنا الأعلى» الذي يجب أن يشكل ركناً أساسياً من أركان البناء النفسي السليم؟ وما هو البديل الواقعي لهذا الغياب؟

 هل يكفي القول إن الرادع الأهم سوف يبقى الخوف من الانكشاف أمام الآخرين، وبالتالي فإن هذا الكائن قادر على خرق كل المحظورات في غياب الرقابة الخارجية؟ أم يجوز لنا الافتراض بأنه في ظل غياب هذا التشكيل المكتمل للإنسان الأخلاقي فإنه من الممكن أن تجنح الأنا للخضوع للتشكيلات النفسية الأولية «ما قبل الأخلاقية»، السابقة للتشكل التام للأنا الأعلى والطبقات النفسية؟ وسوف يكون هذا الخضوع متعلقاً بقوة التثبيتات في كل مرحلة من مراحل تطور الليبيدو الطفلي.

إن نظرة عامة الى أنماط «الاخلاق» السائدة كفيلة بأن تكشف لنا عمق ارتباطها بتلك التشكيلات الأولية. فالاتكالية والعجز والميل الى التلقي السلبي هي سمة المرحلة الفموية؛ والعدوان والمرجلة والفحولة (التشبيح) هي من سمات المرحلة القضيبية؛ أما أكثر هذه التشكيلات التباساً فهي «متلازمة السادية الشرجية»، والتي بميلها المغروس الى التشدد والانضباط والنظامية، وبتقديرها الفائق لميزات الحرص والاكتناز وجمع المال ونبذ التبذير، وبتأكيدها الوسواسي لأهمية النظافة والترتيب والهندام الشخصي، وبعنادها الشديد الذي يضفي عليها مسحة من القوة والتحدي، إنما تتشابه في شطر كبير منها مع «الأخلاق» العامة المتوارثة، وكذا بشطر آخر مع الأخلاق الطبقية والقيم «العصرية» للحداثة الغربية.

وبهذا فإن التثبيتات السادية الشرجية، وبخلاف التثبيتات الأخرى، تخدعنا، وتفرض نفسها علينا، أفراداً وجماعات، كمثال أخلاقي قادر، وتكتسب قوة القيم الاجتماعية المقدسة غير القابلة للطعن أو للنقد، أو حتى للتساهل. إلا أن هذه القوة القاهرة والقادرة، وبما هي تشكيل نفسي أولي مصعّد لكائن يفتقد لعنصر هام من عناصر البناء النفسي، ألا وهو «الأنا الأعلى»، فإنها سوف تبقى قيماً صلدة بلا ضمير، تفتقد للمراجعة وحساب الذات، ويغيب عنها التسامح والتقدير الإنساني. فالطبع الشرجي لا يملك إلا مسطرة حديدية صلبة وعليها يقيس كل الأشياء بلا تردد، إنها «سرير بروكست الذي يتمدد عليه الجميع لتقطع أطرافهم أو لتنخلع مفاصلهم حتى يكونوا على المقاس»!

 خمسة مواقف نفسية / طبعية من الثورة، وفي الثورة

بناء على ما سبق يمكن القول إن الثورة السورية قد أنتجت، أو لنقل رسمت الحدود بين خمسة فئات متباينة أخلاقياً من الشعب السوري، وقد تعزز هذا التباين بحالة الفوضى المتزايدة منذ سنوات وبفائض الحقد الذي تراكم يوماً بعد يوم، ودفع أكثر فأكثر للتفلّت من أية موانع شكلية سابقة، أخلاقية أو قيمية أو قانونية:

1 –  فئة المجرمين والشبيحة التي تنطلق من موقف عدائي متسلط يرتكز على الطبع المتثبت في المرحلة القضيبية، والتي لا تنظر إلى العالم إلا بوصفه موضوعاً للاغتصاب والعدوان وإشباع النوازع/المصالح الذاتية الفردية أو الجمعية. وهي تفتقد إلى أبسط العواطف الإنسانية، ولا تعرف معنى التعاطف مع الضحية وتتغذى على منبعين لا ينضبان من الحقد: الطائفية والطبقية. لا تقتصر هذه الفئة على المجرمين العمليين، إنما يمكن توسيعها لتضم الشبيحة المحتملين من المعجبين بالنظام السوري والمفتونين بقوته ودمويته اللامحدودة.

2 –  الفئة الثانية وهي الأقلية التي حُرمت من فرصتها في التحول لأكثرية بفعل العنف المفرط وغياب التعاطف العام معها، فئة أصحاب الضمير، الأفراد مكتملي النموّ النفسي. هؤلاء من حملوا راية الحرية والكرامة والنضال السلمي وخرجوا في مواجهة الظلم والقمع، هؤلاء هم من قُتلوا أو هُجّروا أو اعتُقلوا، وهم أصحاب الصوت الأكثر صدقاً، الأقل حضوراً. وهي الفئة التي تعرضت لأكبر استهداف من النظام ومن «المعارضة» على السواء، كما اتضح لاحقاً.

3 –  الفئة الأكبر، وهي الفئة المتدينة التي اندفعت ذاتياً أو موضوعياً للوقوف ضد النظام القائم، وقدّمت أكبر التضحيات. سمتها الأبرز الفوضى والغرائزية، وهي لا تخضع لتثبيت نفسي معين أو غالب، إنما تفتقد للنمو السليم والمكتمل وليس لديها ضمير داخلي يحاسب ويراجع، وإنما رقابة خارجية تمثلها قيم الدين والسلطات المتوارثة. من السهل التفّلت من هذه الرقابة في ظل الفوضى وتفكك النظام العام والعلاقات الاجتماعية لتسود الغرائزية اللامنضبطة التي تُخرج أسوأ ما في النفس البشرية من نزعات، وأعظم ما فيها من قدرة على البذل والتضحية بالنفس.

4 –  الفئة الطفيلية التي تتوافق مع تثبيتات المرحلة الفموية، والتي رأت في الثورة ثدياً استثنائياً وفرصة للإفادة الشخصية سواء بالسفر أو باللجوء أو بالعمل المأجور في مؤسّسات دعم الثورة أو ربما بالشهرة أو باللُهاث وراء الدورات والورش التدريبية الفارغة التي تنظمها بعض المؤسسات والدول. ربما لا يخلو أفراد هذه الفئة من الانتماء والعاطفة الإنسانية تجاه الشعب أو القضية، إلا أن الدوافع الذاتية هي محرّكها الأهم، ويشغلها ما تستطيع كسبه واستدخاله. وبالطبع لا أبغي هنا التعميم ولا الإدانة لكل من خضع لدورة أو طلب لجوءاً سياسياً، إنما الحديث عن فئة سمتُها الطبعية الفارقة الطفالة والاتكال والبحث عن الفرص والمنح والعطاءات.

5 –  الفئة الخامسة، وهي فئة واسعة من المؤيدين للنظام أو الصامتين وبعض أطياف المعارضة اليسارية، وهم عموماً الأقل تديناً، والأكثر قرباً من مفاهيم العصر، وغالبيتهم من الأقليات، وهذه الفئة هي التي احتلت المتلازمة السادية الشرجية لديها مكان الأخلاق والضمير. تُظهر هذه الفئة ميلاً كبيراً نحو الحفاظ على مصالحها، ولديها مخاوف كبرى من الخسارة، تؤرقها الهواجس التنظيمية، وهي لا تمتلك حداً أدنى من القدرة على التضحية وترغب بإنجازات مصلحية مجانية، وقد كانت هذه هي الحدود التي حكمت تصرفاتها طوال فترة الثورة.

يمكن القول إن النظام قد استفاد جداً من موقف هذه الفئة، الواسعة، وعرف كيف يلعب على مخاوفها، ويمكن القول أيضاً إن طبع هذه الفئة الانتهازي وحالة الإمساك المزمنة التي تعانيها قد فوّتت على السوريين عموماً فرصة القفزة الحضارية التي كانت ممكنة فيما لو أبدت حداً معيناً من شجاعة التضحية أو الاستعداد للخسارة الآنية في سبيل أهداف بعيدة وسامية.

Exit mobile version