Site icon مجلة طلعنا عالحرية

أنت حلبي ؟!

نبيل سايس*

بدأت هذه القصة عندما كنت في الثامنة من عمري في اليمن.. علمت بأن طفلاً سورياً آخر غيري في المدرسة، وهو من الشعبة “د”، فانتظرته طويلاً على باب صفّه، أنا وصديقي، وحين خرج قال لي صديقي اليمني: هذا هو.

فاستقبلته ضاحكاً، وأكاد أصرخ لأنه أول من سوف أتحدث معه بلهجتي، وفي المدرسة:

– لك أهلين وسهلين وميت السلامة.

تركنا الجميع، تحدثنا طويلاً، كان الحديث حميماً جداً، وخاصة عندما اكتشفت أنني صديقه السوري الأول في اليمن، وأنه ولد مثلي في صنعاء.. قال لي:

– أنا من اعزاز، هي بعد حلب، أنت من وين؟

– ما بعرف أنا من وين.. أنا ولا مرة رحت لسوريا.

– أنت حلبي.. بس من وين من حلب؟

– شلون عرفت أني حلبي؟!

– أنت عم تحكي حلبي!

– شلون يعني؟

– أشو شلون يعني؟ جدبة* شي انت كني*؟

حينها عدت إلى المنزل وسألت والدي

– من وين نحن؟

– من سوريا.

– أي.. أي.. بعرف من سوريا لكان من السودان؟ قصدي من أي مدينة؟

ضحك أبي حتى احمرت وجنتاه. ثم أجابني.

– من حلب

– أصلاً أنا عرفت إني من حلب. اليوم صار عندي رفيق سوري قلي أنت من حلب.. لأنو عم تحكي حلبي.

بدأ والدي حينها يحكي لي أن حلب مدينة عظيمة، قال لي إنها أقدم مدينة في العالم! ثم بدأ يحكي لي عن تاريخها العريق، وعن قلعتها.. كم كان خبراً غريباً بالنسبة لي حين قال لي بأن مدينتك تقبع في منتصفها قلعة مهيبة واسمها قلعة حلب!

– أوف حتى القلعة اسمها حلب؟!

– إي لكان.. وما ضل حدا بالتاريخ إلا وبدو يدخل عليها.. ويحكم حلب من جواتها.

– وهلاً مين قاعد فيها؟

– ما حدا.. أي حدا بيقدر يدخل، يعني كل الناس!

وحينها فقط تحولت أحلامي إلى حلب، حين أكبر سوف أذهب إلى حلب، وسوف أسكن في قلعتها، لأنها “لكل الناس”.. وسوف أحكم المدينة.. لأني سوف أسكن في القلعة.. ولكن.. كل الناس في القلعة! اذاً علي أن أذهب باكراً وأسبق الجميع!

وبعد سنتين دخلت إليها لأول مرة في حياتي، كانت هناك رائحة غريبة تداعب أنفي.. قال لي بعض الأصدقاء من أصدقائي الحلبيين مازحاً في ما بعد:

– هي ريحة قليط*!

فكرت كثيراً في تلك الرائحة حتى عمري هذا.. لم تكن رائحة “قليط” بل كانت رائحة حلب! بدون أي مبالغة.. وكانت تلك الرائحة تدخل إلى مسامي أكثر فأكثر في كل يوم كنت أعيشه في تلك المدينة.. وفي كل يوم كنت أمر فيه بأسواقها القديمة قدم التاريخ ذاته.. في كل كأس من الشاي شربته في مقاهيها أو على عتباتها.. وفي كل فنجان قهوة احتسيته في حدائقها وحاراتها وعلى أدراج كنائسها.. وفي كل آذان كنت أسمعه من الجامع الكبير أو أي جامع فيها.. تلك الرائحة لم تخرج مني يوماً..

حتى وإن سافرت إلى جميع أصقاع الأرض في ما بعد.. بقصد أو بدونه، ما زلت أستعمل مصطلحاتي الحلبية أينما ذهبت، وإن كانت غريبة بعض الشيء مثل (تيْممْ) أي باقِ، أو (كُهْنْهْ) أي هذا هو، أو (دِيْهْ) بمعنى هيّا، لأقف أحياناً في مواقف مضحكة؛ كأن يقف الشخص الذي أحدثه -عند إحدى تلك الكلمات- مستغرباً وكأني أحدثه بلغة سنسكرتية لأعود مكرراً في غضب:

– ديه إشّبَـكْ .. أشْ صرلَكْ قلبت عمود صَرْمَدَا*؟!

ثم استطرد بعد أن أدرك أنه لن ينهض:

– ديه بروك* خليك.

 ليقف مرة أخرى مستغرباً أكثر، ثم يضحك حين يعلم إنّي كنت أتعمّد التحدث بكلمات غريبة.

وحتى الآن، وأعتقد أني سأبقى كذلك حتى آخر يوم في عمري، لا أرمي أظافري في المنزل لأنها “بتعمل مشاكل” ولا أترك أحداً يعبث بالمقص أمامي؛ أي يفتحه ويغلقه دون أن يقصّ به شيئاً: “لأنه بيجيب شر”.. مع أني أعلم بأن لا شيء علمياً في ذلك الحديث، ولكني مقتنع داخيّاً بذلك! وفي أكثر من موقف كان أحدهم يقول لي:

– إنت حلبي؟!

نعم، أنا حلبي.. وقد تجدد حلمي أن أعود إلى حلب، ومازال حلمي أن أدخل قبل الجميع إلى قلعتها، هذه المرة ليس لأحكم المدينة، بل لأفتح الباب لكل الناس، تماماً مثلما قال لي أبي رحمه الله.

———————

*مخرج مسرحي . بيروت

Exit mobile version